مقدمة الكتاب:
الحمـد الله المتجلـي بـالنعم، و الواهـب مـا شـاء لمـن شـاء بـلا سـبب ، ويفـيض سـبحانه مـن فضـله علــى عبــاده، فيفــتح لمــن شــاء خــزائن المــال، و يمــنح بعضــهم القــوة و االبــأ س، و يمــتن علــى آخــرين بالحافظــة واســتيعاب العلــوم، أو بفقــه الأحكــام وفهــم الفــروع، أو بالبراعــة فــي الماديــات و ابتكــار الآلات، واختص عز وجـل الأنبيـاء مـن عبـاده بـالوحي، ورفعهـم بـه فـوق الزمـان والمكـان، وكشـف لهــم مــا هــو مســتور خلــف الحــجُب ، ثــم أورث ســبحانه الــوحي صــفوة مــن عبــاده و أتبــاع أنبيائــه، ٕ ومكـنهم بـه مـن اختـراق غيـوم الأزمنـة والأمكنـة و إدراك ما لا مـا يـراه عمـوم البشـر، والصـلاة والسـلام على من اصطفاه عـز وجـل بـالوحي، وأراه مـن آياتـه الكبـرى، وكشـف لـه مـا هـو مطـوي فـي بطـن الزمان، وجعله به سيد البشر، وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد،
فهـذا الكتـاب الـذي بـين يـديك، بـذور المشـروع اليهـودي فـي الشـام، هـو الجـزء الثـاني مـن كتـاب بلالـيص سـتان، وجـزءه الأول هـو كتـاب: أول الآتـين مـن الخلـف، و همـا كتـاب واحـد وجعلنـاه فـي جزءين لضخامة حجمه. ولأن كتـاب: بـذور المشـروع اليهـودي فـي الشـام هـو امتـداد لكتـاب: أول الآتـين مـن الخلـف، أو هما كتاب واحد، فلا يمكن فهم بذور المشروع اليهودي في الشام ودور أول الآتين من الخلف في وضع هذه البذور، ولا إدراك حقيقة أول الآتين من الخلف وصلته باليهود وموقعه من مشـروعهم، إلا بقـراءة الجـزء الأول ومعرفـة أصـول أول الآتـين مـن الخلـف ومـا الـذي فعلـه فـي مصـر، وكيـف انحرف بمسارها وحولها من قلب بلاد الإسلام إلى ذيل للإمبراطوريات الماسونية. ولكي تظل الصلة قائمة بين الكتابين، وفي الوقت نفسه لكي يكون هذا الكتاب الذي بين يديك كتاباً مستقلاً، فقد بدأنا كتاب: بذور المشروع اليهودي في الشام بباب الحملـة علـى الشـام والحـرب مـع الدولـة العثمانيـة، مـن كتـاب: أول الآتـين مـن الخلـف، وهـو البـاب الـذي يتصـل مباشـرة ببـذور المشروع اليهودي في الشام، ولابد من قراءته لفهم كيف تم بذرها.
وقد أخبرناك أن هـذين الكتـابين، أول الآتـين مـن الخلـف، وبـذور المشـروع اليهـودي فـي الشـام، همـا جـزءان فـي كتـاب واحـد، هـو كتـاب بلالـيص سـتان، والحقيقـة أن كتـاب بلالـيص سـتان نهـر هائل الحجم غزير المياه متعدد الفروع، ويدور كله حول تاريخ بلاليص ستان منذ حملة الماسوني نـابليون بونـابرت علـى مصـر، وكيـف تـم تحويلهـا مـن خليجهـا السـائم إلـى محيطهـا الهـائم، إلـى محضن للمشروع اليهودي وتو ظيفها في كل مرحلة بعد ذلك من أجل إتمامه.
ونهر بلاليص ستان الكبير تفرعت منه فرو ع عديدة، فهذان الكتابـان: أول الآتـين مـن الخلـف، وبذور المشروع اليهود في الشام، هما جسمه الرئيسي، ومن الفروع التـي تفرعـت منـه كتـاب: ولـي الأمر المتغلب وهندسة المعيار والميزان، ومن هـذه الفـروع أيضـاً كتـاب: اليهـود والحركـات السـرية في الكشوف الجغرافيـة، خصوصـاً البـاب الأخيـر منـه، وهـو بـاب: الأفعـى الماسـونية، شـركة الهنـد الشرقية البريطانية في مياه الإسلام. ومـا زال فـي الجسـم الرئيسـي لنهـر بلالـيص سـتان الكبيـر أجـزاء أخـرى، غيـر أول الآتـين مـن الخلــف وبــذور المشــروع اليهــودي فــي الشــام، نرجــو أن يمــتن علينــا عــز وجــل بالوقــت والفــراغ لاستكشافها والظروف المناسبة واتمامها.
وســوف تــدرك وأنــت فــي رحلتــك مــع كتــاب بــذور المشــروع اليهــودي فــي الشــام، أن المشــروع اليهـودي لـيس مجـرد مشـروع سياسـي، كمـا يتـوهم الأميـون فـي بلالـيص سـتان، ولا أنـه ظهـر مـع هرتـزل والحركـة الصـهيونية، كمـا يتعمـدون إيهامـك، بـل المشـروع اليهـودي مشـروع عقائـدي شـديد القدم، ويسير مع الزمان، ويلتبس بأحداث التاريخ في كل العصور وجميـع الأمـم، و مـا يظهـر منـه في كل عصر هو ما تسمح ظروفه وأوضاعه بظهوره .
وكــل مشــروع غربــي لغــزو الشــرق أو الســيطرة عليــه او اســتعماره، منــذ الحملــة الصــليبية، ثــم الكشوف الجغرافية، فالحملات الاسـتعمارية، وسـواء كانـت راياتهـا دينيـة أو علمانيـة، وسـواء كانـت بالجيوش والسلاح أو بالمـال والتجـارة أو بـالتعليم والإعـلام، كـل مشـروع غربـي عبـر التـاريخ لغـزو الشـرق، كمـا سـترى، لـم يكـن سـوى غـلاف للمشـروع اليهـودي، أو مـن وسـائل اقترابـه مـن غايتـه، واليهود ومـن يسـتوطن اليهـود أذهـانهم ونفوسـهم ، هـم الـذين يحركونـه بالأفكـار وتخليـق الـدوافع فـي أذهان حكام الغرب وساسته وقادة جيوشه، ثم بسيطرتهم علـى شـرايين الغـرب الماليـة والاقتصـادية وسريانهم في أعصابه الإعلامية والتعليمية.
والجهـد الرئيسـي لليهـود عبـر التـاريخ، لـم يكـن العمـل بأنفسـهم ووضـع الخطـط مـن أجـل العـودة إلــى الشــرق واســتعادة فلســطين التــي يعتقــدون أنهــا أرضــهم المقدســة التــي وعــدهم الإلــه بهــا، بــل إنجازهم الأكبر وجهدهم الرئيسي كان البحث عمن يستوطنون ذهنه ونفسه من الأشخاص والأمم بعقيدة أن اليهود شعب الإله المقدس، لكي يتـولى هـو الكفـاح وحشـد الجيـوش وشـن الحمـلات مـن أجـل تحقيـق مـا بثـوه فـي ذهنـه ونفسـه وصـار عقيدتـه، عـن وعـد الإلـه لشـعبه بإعـادتهم إلـى الـبلاد ملكاً التي جعلها بالتوراة لهم.
وتـاريخ الغـرب منـذ الحمـلات الصـليبية، بكـل دولـه، وفـي جميـع أشـكاله الدينيـة والعلمانيـة، هـو الجـزء الأول مـن المشـروع اليهـودي، أو الشـق الغربـي مـن دورة إفسـاد بنـي إسـرائيل الثانيـة، وأمـا الجــزء الثــاني مــن المشــروع والشــق الشــرقي مــن دورة الإفســاد، فهــو الــذي يبــدأ بوصــول حملــة الماسـوني نـابليون إلــى مصـر، ومــا تلاهـا مــن وصــول أول الآتـين مــن الخلـف إلــى السـلطة فــي مصر، وما فعله فيها، وهو ليس إلا نابليون آخر يتخفى في ثياب شرقية. فـي المشـروع اليهـودي فـي الشـام، كمـا سـتعلم تفصـيلاً فـي الأبـواب الأولـى مـن أمـا أول بـذرة الكتاب، فهي دخول جيش أول الآتين من الخلف إلى الشام واستيلاؤ ه عليها و تغيير هويتها، عبـر قطعهـا عـن بـلاد الإسـلام ، ومـا فعلـه فيهـا مـن التنكيـل بالمسـلمين مـن أهلهـا ، وتصـعيد الأقليـات، ٕواسباغ حمايته على اليهود وسعيه هو وابنـه نحـو وتهويد القدس وفتحها أمام قناصل الإمبراطوريات الماسونية ، . ـ َ ، ثـم سمل أول الآتـين مـن الخلـف الشـام لبريطانيـا لتسـتكمل مـا بـدأه وتفعـل مـا لا يمكنـه فعلـه فكانت البذرة الثانية في المشروع اليهودي، هي إنشاء قنصلية بريطانية في القدس، لتكون مهمتها الأولـى رعايـة اليهـود وتوطئـة الشـام لهـم، ثـم إنشـاء أول أسـقفية بروتسـتانتية فـي القـدس ..